فصل: مسألة النصراني يموت وله ابن مسلم أيغسله ويكفنه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة النصراني يموت وله ابن مسلم أيغسله ويكفنه:

وسئل: عن النصراني يموت وله ابن مسلم، أيغسله ويكفنه ويشهد جنازته؟ فقال: يغسله إلى النار، أهل دينه أولى بذلك، وما يعجبني أن يفعل ذلك؟ قيل له: فيمشي معه؟ قال: يمشي معه- يقول: لا يضيع.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات يقول: لا يضيع، وفي بعضها يقول: لا يصنع، والروايتان صحيحتان، إن لم يخش عليه الضيعة فلا يمشي معه، وإن خشي عليه الضيعة مشى معه- معتزلا عن الحاملين له من أهل دينه، وقد مضى تمام القول في هذه المسألة في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم.

.مسألة أيحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي عليها:

قال: وسألته أيحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي عليها؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم القبلة، ورسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم- موعبا فلا وجه لإعادته.

.مسألة الذي يصلي على الجنازة أيرفع يديه مع كل تكبيرة:

وسئل: عن الذي يصلي على الجنازة أيرفع يديه مع كل تكبيرة؟ فقال: ما سمعت في هذا بشيء لازم للناس، وذلك حسن واسع كله أن يرفع يديه مع كل تكبيرة، وأن يرفع يديه في التكبيرة الأولى.
قال محمد بن رشد: قوله: ما سمعت في هذا بشيء لازم للناس، صحيح لا اختلاف بين أهل العلم في أن رفع اليدين في الصلاة على الجنائز ليس بواجب، وإنما يتكلم في هذا على ما يستحب منه؛ ففي المدونة: أنه يرفع يديه في التكبيرة الأولى خاصة، وفي أصل الأسدية: أنه لا يرفع يديه لا في أول تكبيرة ولا فيما بعدها.
وفي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة: أنه يرفع في الأولى وفيما بعدها، واستحب في هذه الرواية أنه يرفع في الأولى، وخيره فيما بعد الأولى، إن شاء رفع، وإن شاء لم يرفع، كل ذلك حسن واسع؛ فوجه قوله: إنه يرفع في الأولى- خاصة، القياس على المشهور عنه في الصلاة أنه لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام، ووجه قوله: إنه يرفع في التكبيرات كلها، أنه قاس سائر التكبيرات على التكبير الأول، لاستوائهما في الوجوب؛ وما في أصل الأسدية أنه لا يرفع في الأولى ولا فيما بعدها، هو على ما في بعض روايات المدونة من كتاب الحج الأول من تضعيف رفع اليدين في تكبيرة الإحرام، وعلى ما في سماع أبي زيد من كتاب الصلاة من إنكاره لذلك؛ وقد مضى التكلم على ذلك كله في سماع أبي زيد المذكور، وفي رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة أيضا.

.مسألة الرجل الجنب يقتل شهيدا في المعترك هل يغسل ويصلى عليه:

قلت لأشهب: أرأيت الرجل الجنب يقتل شهيدا في المعترك، هل يغسل ويصلى عليه؟ فقال: لا يغسل ولا يصلى عليه، وإن كان جنبا قد ترك غسل من قد اجتمعت الأمة على غسله من موتى المسلمين، وكذلك يترك غسل الجنب إذا كان شهيدا، وقال ابن الماجشون مثل قول أشهب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قالا؛ لأن غسل الجنابة من العبادات المتوجهة على الأحياء عند القيام إلى الصلاة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]- الآية- إلى قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].
فإذا مات الميت ارتفعت عنه العبادات من الصلاة والغسل لها وغير ذلك، وغسل الميت إنما هي عبادة للأحياء تعبدوا بها فيه؛ فهي واجبة عليهم على الكفاية بإجماع، قيل: وجوب السنن، وقيل: وجوب الفرائض؛ ووجه احتجاج أشهب، هو أنه يقول: لما سقط وجوب غسل الميت بالشهادة، وقد كان واجبه وإن لم تكن به جناية، وجب أن يسقط بها- وإن كان جنبا، إذ لا تأثير للجنابة فيما كان يلزم من غسله- لولا الشهادة، وهو احتجاج صحيح من جهة القياس والنظر، وقد جاء بذلك الأثر، ذكر أهل العلم بالسير، أن حنظلة بن أبي عامر الراهب، كان قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد، ثم هجم عليه من الخروج في النفير، ما أنساه الغسل وأعجله عنه؛ فلما قتل شهيدا، أخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الملائكة غسلته؟ وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل امرأته ما كان شأنه؟ فقالت: إنه كان جنبا وغسلت أحد شقي رأسه، فلما سمع الصيحة خرج فقتل؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد رأيت الملائكة تغسله»، فسمي حنظلة الغسيل- وكان من الأوس؛ روي أنها افتخرت على الخزرج- وكانا يتنافسان، فقالت الأوس:
منا غسيل الملائكة، ومنا من حمته الدبر: عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت، ومنا من اهتز العرش لموته: سعد بن معاذ، فقال الخزرجيون: منا أربعة جمعوا القران على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زيد بن ثابت، وأبو زيد، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب- يريدون ولم يقرأه كله أحد منكم، إذ قد قرأه كله جماعة من غير الأنصار؛ منهم عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم.

.مسألة الميت يغسل بالعشي فلا يكفن إلا من الغد:

من سماع عيسى بن دينار من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب العرية:
قال: وسئل عن الميت يغسل بالعشي فلا يكفن إلا من الغد، أترى ذلك الغسل يجزئه؟ قال: نعم، أرجو أن يجزئه.
قال محمد بن رشد: الاختيار أن يكون غسل الميت عند ما يحمل، فإن أخر حمله بعد غسله، أو بات، لم يعد غسله، وإن خرج منه شيء غسل مخرجه، وموضعه من الثوب فقط، حكاه ابن حبيب عن أصبغ وغيره، وأما إن خرج منه شيء في حال الغسل، فقد قال بعض العلماء: إن خرج منه شيء بعد أن غسل ثلاثا، غسل خمسا، فإن خرج منه شيء، غسل سبعا؛ فإذا بلغ السبع، لم يزد على ذلك، وذلك مستحب غير واجب عنده- وبالله التوفيق.

.مسألة المرأة تموت ولا مال لها من يكفنها:

ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك:
مسألة وقال في المرأة تموت ولا مال لها، على من ترى كفنها- وثم أبوها وزوجها؟ فقال: أما إن كانت بكرا فعلى أبيها، وإن كانت متزوجة- وقد دخل بها زوجها فليس ذلك على أبيها، ولا على زوجها، إلا أن يطوعا بذلك؛ ولو كان لها- ولد، كان ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: اختلف في وجوب كفن الزوجة على الزوج على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يجب على الزوج مليئة كانت أو معدمة، وهي رواية عيسى هذه، والثاني: أنه يجب عليه مليئة كانت أو معدمة، وهو قول ابن الماجشون.
والثالث: أنه يجب إن كانت معدمة، ولا يجب عليه إن كانت مليئة، وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه، فوجه القول الأول: أن النفقة إنما كانت واجبة عليه بحق المعاوضة والاستمتاع، وذلك ينقطع بالوفاة، ووجه القول الثاني، أن الكفن تابع للنفقة؛ لأن ذلك من توابع الحياة، وأما القول الثالث: فهو استحسان ليس على حقيقة القياس، وكذلك اختلف في وجوب كفن الابن الصغير، أو الزمن الذي لا مال له على الأب؛ وفي وجوب كفن الأب المعدم على الابن، فقيل: إن ذلك عليهما كالنفقة؛ لأنه من توابع الحياة، وهو رواية عيسى هذه، وقول ابن الماجشون، وروايته عن مالك؛ وقيل: إن ذلك لا يجب عليهما، إذ ليست النفقة في ذلك ثابتة؛ لأن نفقة الأب تحدث، ونفقة الابن تزول، وهو قول سحنون؛ وقيل: إنه يجب على الأب كفن ابنه الصغير، ولا يجب على الابن كفن أبيه، وهو أحد قولي سحنون، ولا اختلاف في وجوب كفن العبد على سيده.

.مسألة هل تكفن المرأة في الثياب المصبوغة:

وسألته هل تكفن المرأة في الثياب المصبوغة؟ قال: نعم، وتكفن في الورس، والزعفران، وغير ذلك من الألوان، إلا أن مالكا كره المعصفر، إلا ألا يجد غيره.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة؛ لأنه إذا كره المعصفر للمرأة لم فهو للرجل أكره؛ لأنه من الزينة؛ وأجازه مالك في رواية علي بن زياد عنه للرجل والمرأة، وأجازه ابن حبيب للمرأة دون الرجل، وأما الورس والزعفران، فهو جائز للرجل والمرأة؛ لأنه من الطيب، وليس من الزينة،- قاله ابن حبيب في الرجل إذا غسل وإن لم يخرج منه لونه- وبالله التوفيق.

.مسألة يؤتى بجنازتيهما والواحد أحسن حالا والآخر أسن أيهما يقرب إلى الإمام:

ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس مسألة:
وسئل: عن الرجلين يؤتى بجنازتيهما، والواحد أحسن حالا والآخر أسن، أيهما يقرب إلى الإمام؟ قال: الأحسن حالا، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا اختلاف فيه أحفظه، أن الأحسن حالا يقدم على الأسن، وإنما يقدم الأسن على من هو أدنى منه سنا إذا استوت حالتهما في الفضل، والأعلم يقدم على الأفضل، وهذا من ناحية التقديم للإمامة- وبالله التوفيق.

.مسألة معنى قول عمر عند موته ولا تجعلوا علي حجرا:

ومن كتاب العشور:
مسألة وسئل ابن القاسم: عن قول عمر عند موته: ولا تجعلوا علي حجرا؟ قال: ما أظن معناه إلا من فوق على وجه ما يبنى على القبر بالحجارة.
وقد سألت مالكا عن القبر يُجعل عليه الحجارة يرصص بها عليه بالطين؟ وكره ذلك، وقال: لا خير فيه، وقال: لا يُجَيَّر ولا يُبنى عليه بطوب ولا بحجارة.
قال محمد بن رشد: البناء على القبر على وجهين؛ أحدهما: البناء على نفس القبر، والثاني: البناء حواليه؛ فأما البناء على نفس القبر، فمكروه بكل حال؛ وأما البناء حواليه، فيكره ذلك في المقبرة من ناحية التضييق فيها على الناس، ولا بأس به في الأملاك- وبالله التوفيق.

.مسألة ميت دفن فسهوا عن الصلاة عليه:

ومن كتاب النسمة:
مسألة وسئل ابن وهب: عن ميت دفن فسهوا عن الصلاة عليه، ولم يذكروا إلا بعد ما أرادوا الانصراف عنه؛ قال: قد سمعت من يقول في هذا: إنه لا ينبش، ولكن يصف على قبره حتى يصلى عليه، ويكبر عليه أربع تكبيرات بإمام؛ فإن «رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل عن مسكينة سوداء كانت تقوم على المسجد، فقيل له: يا رسول الله، توفيت البارحة ودفناها، فكرهنا أن نُخرجك ليلا؛ قال: فانطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه حتى وقف على قبرها، فصلى عليها وكبر أربع تكبيرات».
قال عيسى: أرى أن ينبش إذا كان بحضرة ذلك- ويصلى عليه، وإن فات صلى على قبره، قال ابن القاسم- مثله.
قال محمد بن رشد: اختلف فيمن دفن ولم يصل عليه: فقيل: إنه يُخرج ويُصلى عليه ما لم يفت، فإن فات صُلِّي على قبره، وهو قول ابن القاسم، وابن وهب؛ وقيل: إنه يُخرج ما لم يفت، فإن فات ترك ولم يصل على قبره؛ لئلا يكون ذريعة إلى الصلاة على القبور، وهو قول أشهب، وسحنون، ومثله في المبسوط لمالك؛ واختلف بماذا يكون الفوت على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يكون بأن يُهَال عليه التراب بعد نصب اللبن، أو دون اللبن، وهو قول أشهب.
والثاني: أنه يكون بالفراغ من الدفن، وهو قول ابن وهب- ههنا.
والثالث: أنه يكون بأن يُخشى عليه التغيير، وهو قول سحنون، وقول عيسى، وروايته عن ابن القاسم- هنا؛ وإنما يصلى على القبر عند من رأى ذلك- ما لم يطل ذلك حتى يذهب الميت بفناء أو غيره، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يصلى على قبر بعد ثلاث، قال: لأنه يصير بعد ثلاث إلى حد لا يُصلى عليه، وقد لا يتغير الميت إلى أبعد من هذه المدة، مع أنه قد روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على قبر بعد ثلاث».

.مسألة قال لها ختنها أسلمي يا فلانة حتى نغسلك:

وسئل ابن القاسم: عن امرأة نصرانية قال لها ختنها: أسلمي يا فلانة حتى نغسلك، ونصلي عليك.
فقالت: نعم، وأمرت بغسل ثيابها، وقالت: كيف أقول؟ قال: قلت لها قولي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته؛ فقالت: كل هذا ثم ماتت، فدفنت في قبور النصارى؛ فقال ابن القاسم: اذهب فانبشها، ثم اغسلوها وصلوا عليها، إلا أن تكون قد تغيرت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الكفار يعذبون في قبورهم، وهي تتأذى من أجل ذلك لمجاورتهم؛ فواجب أن تنبش وتحول إلى مقابر المسلمين، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة الميت ينبش أيغسل ويكفن:

من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب أوله يشتري الدور والمزارع وسألته: عن الميت ينبش، أيغسل ويكفن؟ قال: لا يعاد غسله، ولكن يكفن ويدفن، قلت: أواجب على أهله أن يكفنوه، أم يستحسن ذلك؟ وإن ترك لم تر به بأسا؟ قال: بل واجب عليهم أن يكفنوه.
قلت: أفمن رأس المال بمنزلة الكفن الأول؟ قال: نعم، قلت: وإن كان عليه دين يحيط بماله، بدئ أيضا كما يبدئ الكفن الأول، قال: نعم، قلت: أفيصلى عليه الثانية؟ قال: الصلاة الأولى تجزئه.
وسئل سحنون: عن رجل مات وكفنه أهله، فدفن وقسم ماله، ثم وجد الميت فوق الأرض منبوشا، ليس عليه أكفانه؛ هل يكون على ورثته أن يكفنوه مرة أخرى من رأس المال؟ أو من الثلث إن كان الميت أوصى بثلث ماله؟ فقال: ليس على أهله أن يكفنوه- مرة أخرى، إلا أن يتطوعوا، ويدفن من غير كفن، ولا يكفن من ثلث ولا غيره؛ لأنه قد كُفن وصلي عليه على سنة الإسلام.
قال محمد بن رشد: ذهب بعض أهل النظر إلى أن قول سحنون مبين لقول ابن القاسم؛ لأنه تكلم على أن المال قد قسم، وتكلم ابن القاسم على أنه لم يقسم، وذلك بعيد من جهة اللفظ والمعنى، أما بُعْده من جهة اللفظ، فهو أن القسمة ذُكرت في السؤال- ولم يعلل بها في الجواب، وإنما علل بأنه قد كفن وصلي عليه على سنة الإسلام، وأما بعده من جهة المعنى، فهو أن الحقوق الطارئة على الشركة لا يُسقطها قسمة المال، فهو اختلاف من القول.
فعلى مذهب ابن القاسم، على الورثة أن يكفنوه من بقية المال- قسم أو لم يقسم، وذلك بيِّن من قوله: إنه بمنزلة الكفن الأول، يبدأ على الدين؛ وعلى مذهب سحنون لا يلزم الورثة أن يكفنوه- ثانية مما بقي من التركة، قسمت أو لم تقسم.
ووجه القول الأول: أن الكفن في ضمان الورثة- وإن دفن الميت به؛ إذ ليس ممن يقبض لنفسه، ولا يجوز لها، وعلى الورثة أن يشتروه بماله من الكفن قبل الدفن وبعده- إذا عري؛ إذ ليست حرمته بعد الدفن بأدنى من حرمته قبله، فهو بمنزلة ما لو استحق من عليه بعد أن دفن؛ أو بمنزلة ما لو سرق من عليه، أو اختلس قبل الدفن.
ووجه القول الثاني: أنه بالدفن يخرج من ضمان الورثة، ويحصل الميت في حكم القابض له بإدخاله به في قبره- وإن كان ممن لا يصح منه القبض؛ لأنه بيته؛ ألا ترى من سرق منه يقطع، وأن الوصي إذا جهّز اليتيمة من مالها وأورده بيت بنائها، يبرأ من الضمان، وتحصل اليتيمة قابضة لذلك، وإن كانت ممن لا يصح منها القبض؛ إذ ذلك أكثر المقدور عليه- وبالله التوفيق.

.مسألة هل يصلى على المنبوذ إذا مات قبل أن يعرف الصلاة:

ومن كتاب المكاتب مسألة:
وسألته: هل يصلى على المنبوذ إذا مات قبل أن يعرف الصلاة، وفي البلد الذي طرح فيه يهود، ونصارى؟ قال: نعم. يصلى عليه، ولا تترك الصلاة عليه، لما في بلده من اليهود والنصارى؛ لأن السنة ألحقته بأحرار المسلمين في تمام عقله على قاتله- وهو حر لا سبيل لأحد عليه؛ قال: وترك أخذه أحب إليّ، إلا أن يخشى عليه الهلاك إن ترك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه على دين من التقطه من المسلمين، زاد ابن حبيب- وإن وجد في كنيسة، وإن كان عليه زي النصارى- إذا كان في جماعة المسلمين، وهو معنى ما في كتاب تضمين الصناع من المدونة، قال: وذلك بخلاف الكبير يوجد ميتا، أو الغريب يموت ولا يُعلم أنه كان مسلما؟ فإنه لا يصلى عليه- وإن كان مختونا؛ لأن النصارى قد يختتنون. وفي سماع عبد الملك عن ابن وهب: أنه يصلى عليه إن كان مختونا- وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة الكفن أيجعل فيه عمامة أو قميص:

ومن كتاب الأقضية:
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم: عن الكفن أيُجعل فيه عمامة، أو قميص؟ أو هل يؤزر الميت؟ فقال: أحب ما كفن فيه الميت إلينا ثلاثة أثواب بيض، وكذلك كفن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجعل فيه قميص، ولا عمامة، ولا يؤزر، ولكن يدرج فيهن إدراجا؛ قلت له: فالمرأة أتُدْرَج دَرْج الرجال؟ فقال: أحب إلي أن تؤزر وتخمر، وذلك سواء، ثلاثة أثواب تدرج فيهن لمن وجد لذلك سعة.
قال محمد بن رشد: هكذا وقعت هذه الرواية هنا لابن القاسم. والمعروف من مذهبه وروايته عن مالك في المدونة، وغيرهما: أن من شأن الميت أن يعمم؛ وقد وقع في العشرة في الكتاب الذي أوله يغتصب الأرض براحا؛ قال يحيى: وسألت ابن نافع عن الكفن- المسألة إلى آخرها على نصها- والله أعلم- أنها من قول ابن نافع، لا من قول ابن القاسم- وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة ماذا أعددت لبيت الوحدة:

من سماع موسى بن معاوية من ابن القاسم:
قال موسى بن معاوية: حدثنا جرير، عن مسعر، قال: كان يقال: إذا أدخل الميت القبر، قال له القبر: ماذا أعددت لبيت الوحدة، وبيت الوحشة، وبيت الدود؟ قال موسى: وحدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن عبيد الله بن عمير الليثي، عن أبيه، قال: إن القبر ليبكي، ويقول: أنا بيت الدود، وبيت الوحشة، وبيت الوحدة.
قال محمد بن رشد: هذا على المجاز لا على الحقيقة، أي: لو كان القبر ممن يصح منه البكاء والكلام، لبكى وقال هذا القول؛ وهذا مثل قوله عز وجل: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]، والجدار لا تصح منه الإرادة، ومثل قول عنترة:
وشكا إليّ بعبرة وتحمحم يعني فرسه.
ومثل قول الحارثي:
يريد الرمح صدر أبي براء ** ويرغب عن دماء بني عقيل

ومثل قول غيره:
وعظتْك أحداث صُمْت ** ونعتْك أزمنة خُفْت

وأرتك قبرك في القبو ** ر وأنت حي لم تمت

وتكلمت عن أوجه ** تبلى وعن صور سبت

وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم.

.مسألة المرأة ذات الشعر تغسل، كيف يصنع بشعرها:

قال موسى: وسئل ابن القاسم: عن المرأة ذات الشعر تغسل، كيف يصنع بشعرها، أيظفر؟ أم يفتل؟ أم يرسل؟ وهل يجدل بين الأكفان؟ أم يعقص ويرفع مثل ما ترفعه الحية بالخمار؟ وكيف صفة غسلها وكفنها؟ وكيف يصنع بخمارها وشعرها وأكفانها؟ قال ابن القاسم: لم يكن للميت في غسله حد عند مالك، إلا أنه يغسل وينقى؛ وأما الشعر فليفعلوا فيه كيف شاءوا؛ وأما الظفر فلا أعرفه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما حكى ابن القاسم عن مالك: أنه لا حد عنده في غسل الميت- يريد في عدد الغسلات، وإنما الحد في ذلك عنده الإنقاء، ويستحب فيه الوتر، وأدناه ثلاث؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابنته: «اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن» الحديث. كما أنه لا توقيت عنده في الوضوء، وإنما الحد فيه الإسباغ، ولأعداد مستحبة؟ وقوله في الظفر: إنه لا يعرفه- يريد: أنه لا يعرفه من الأمر الواجب، وهو- إن شاء الله- حسن من الفعل، روي عن أم عطية، قالت: «توفيت ابنة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما غسلناها ضفرنا شعرها، فجعلناه ثلاث ضفائر: ناصيتها، وقرنيها، ثم ألقيناها من خلفها». وقد روي عن بكر بن عبد الله المزني: أنه سأل أعلم بيت من قريش بالغسل عن صفة الغسل، فقالوا: نصنع بالميت ما نصنع بالعروس، غير أنه لا يخلق ولا ينور- والله تعالى أعلم.

.مسألة الرجل يموت هل تغسله أمته أو مدبرته أو مكاتبته:

وسئل ابن القاسم: عن الرجل يموت، هل تغسله أمته؟ أو مدبرته؟ أو مكاتبته؟ فقال ابن القاسم: لا أرى بأسا أن تغسله أمته، أو مدبرته، كل من كان يحل له، مثل المرأة، قال لي مالك في المرأة تغسل زوجها، وأما المكاتبة فلا.
قال محمد بن رشد: وهذا- كما قال- إنه جائز أن يغسل الرجل أمته، أو مدبرته، كما يجوز ذلك لامرأته؛ لأنهن حلائله؛ وهذا إذا أذن في ذلك أولياؤه. وأما إذا لم يأذنوا في ذلك، وأرادوا أن يلوه بأنفسهم، فذلك لهم في الأمة والمدبرة قولا واحدا؛ إذ لا حق لهما في ذلك معهم؛ وأما الزوجة فهم أحق بذلك منها، لا يقضى لها عليهم بغسله، وقد قيل: إنه يقضى لها عليهم بغسله، وأما الرجل فإنه يقضى له بغسل زوجته الحرة والأمة، وقيل: لا يقضى له بغسل زوجته- إذا كانت أمة، وأهل العراق لا يجيزون للرجل غسل زوجته- لانقطاع ما بينهما بالموت، ولا يجيزون للمرأة غسل زوجها- إذا انقضت عدتها منه بوضع حمل إن كان بها، وهو بعيد؛ إذ لو انقطع ما بينهما بالموت، كما ينقطع بالطلاق البائن، لما توارثا، ويكره مالك للرجل أن يغسل زوجته إذا تزوج أختها، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل المسلم يموت وليس معه من يغسله:

وسئل ابن القاسم: عن الرجل المسلم يموت وليس معه من يغسله إلا أمه، أو أخته، أو امرأته، أو من ذوات المحارم؛ وليس معهن رجل إلا مشرك؛ وهل يغسل الرجل أمه، أو أخته، أو ذات رحم محرم منه؟
فقال ابن القاسم: يغسله ذوات محارمه من النساء من فوق الثوب: أمه أو ابنته أو أخته، وأما المرأة فإنها تستر عورة أبيها، وأخيها؛ والمرأة تغسل زوجها، والزوج يغسل امرأته في الحضر والسفر، وهو قياس قول مالك؛ وأما الحضر والإقامة فهو قول مالك، قال: تغسل المرأة زوجها، والزوج يغسل امرأته.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم الجنائز والصيد والذبائح من سماع أشهب- تحصيل القول في غسل ذوي المحارم بعضهم بعضا، ومضى في المسألة التي قبل هذه القول في غسل أحد الزوجين صاحبه، فلا فائدة في إعادته.

.مسألة إمام جنازة صلى عليها وهو جنب لم يشعر بجنابته حتى دفنت:

وسئل: عن إمام جنازة صلى عليها وهو جنب لم يشعر بجنابته حتى دفنت، وكيف إن علموا قبل أن تدفن بجنابته بعد دخولها اللحد؟ أترد للصلاة عليها؟
قال ابن القاسم: أرى صلاتهم جائزة ولا تعاد، ألا ترى أن المكتوبة لو أن رجلا صلى بهم جنبا ناسيا، ثم سلم فعلم، أجزأت عنهم صلاتهم؛ فكذلك الجنازة إذا صلي عليها، أجزأت عنهم صلاتهم عليها.
قال محمد بن رشد: قياسه صلاة الجنازة في هذا على صلاة الفريضة صحيح، لا إشكال في صحته، فيدخل في صلاة الجنائز من الخلاف ما في صلاة الفريضة؛ لأن أهل العراق يقولون: إنها تبطل على المأمومين، كما بطلت على الإمام، وهو القياس على القول بأن صلاة المأمومين مرتبطة بصلاة الإمام؛ وحجة مالك حديث عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذ صلى الصبح بالناس- جنبا، فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة؛ وله وجه من النظر مع الاتباع، وهو أن الإمام إذا صلى بالناس جنبا، أو على غير وضوء- ولم يعلم بذلك، فقد سقط الفرض عنه وعنهم؛ لقوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان» الحديث. فإن ذكر بعد ذلك، وجبت عليه الإعادة دونهم؛ لأنهم صلوا بطهارة؛ إذ ليس سهو الإمام عن الطهارة سهوا لهم عنها، فيجب عليهم الإعادة، وإنما يكون سهو الإمام سهوا لمن خلفه، أو إن لم يكن منهم سهو إذا سها عما يحمله عنهم، كالقراءة، فلهذا وجبت الإعادة على المأمومين إذا سها الإمام عن القراءة وإن قرءوا هم، فإذا صلى الإمام بقوم على غير طهارة- وهو لا يعلم ثم علم، أعاد ولم يعيدوا؛ لأن الصلاة فرض على الأعيان. وإذا صلى على الجنازة- وهو على غير طهارة ثم علم، جازت الصلاة، ولم تجب إعادتها عليه ولا عليهم، أما هم فمن قِبَل أنهم صلوا على طهارة، وأما هو فمن قبل أن الفرض قد سقط عنه بصحة صلاتهم؛ لأنها من فروض الكفاية، ولو صلى عليها هو وَهْم على غير طهارة ثم علموا، لوجب أن تعاد الصلاة عليها.